ولادة الطب الثوري في كوبا






ترجمت بواسطة : لجين الصدّر
مجموعة ابن الجزار القيرواني الطبية
بقلم: دون فيتز
خلال خمس سنوات من ثورة كوبا عام 1959، غادر نصف أطباء الدولة البالغ عددهم 6000 طبيب البلاد، ولكن بالرغم من أن عددا كبيرا منهم تخلوا عن وطنهم بحثاً عن الراحة في ميامي، اختار 3000 طبيب البقاء، والسؤال هنا لماذا؟ والأهم مما سبق، مع تضاعف عدد المرضى لكل طبيب تباعا لما حصل، كيف تمكن أولئك الأطباء من مواجهة المهمة الجسيمة بتغيير واقع الممارسة الطبية؟
بالتزامن مع تقديم الرعاية الصحية، كان هدف الأطباء الذين آثروا البقاء هو نشر العناية الطبية لتصل الى المناطق الريفية بكوبا، وزيادة انتشار التعليم الطبي ليسد النقص الذي خلفه رحيل الأطباء خارج البلاد، والعمل على جعل الرعاية الطبية وقائية ومجتمعية ومرتكزة على علاج الأمراض الاستوائية وإعادة تصميم النظام الصحي المفكك وغير المترابط.
لتوضيح تلك التغييرات خلال هذه الفترة، يتطلب علينا بداية فحص الموارد المتاحة في كوبا، فضلا عن استعراض التاريخ الشفهي للأطباء الكوبيين الذين عاصروا الثورة..
الأطباء الكوبيون يتخلون عن مرضاهم
قبل عام 1959، شهدت كوبا ثلاث ثورات طبية. كانت الثورة الطبية الأولى (1790-1830) قائمة في سياق الوحشية ضد العبيد، فكان بإمكان المسؤول أو المشرف ببساطة إستخدام الساطور لقطع يد الرقيق الجريحة والعالقة في الآلة. هذه الأحداث كانت شائعة بين أولئك الذين أجبروا على العمل 20 ساعة في اليوم[1] . قاد هذه الثورة الأولى توماس روماي تشاكون (1764-1849) الذي أدخل تطعيم الجدريsmallpox  إلى كوبا، ودعا الى إنشاء صرف صحي عام، وكان داعما لتقديم العلاج الطبي للعبيد، كما أنه قدم للمعالجين الكوبيين طرقا فكرية بديلة من اتباع التقاليد الاسبانية بشكل أعمى.
الثورة الطبية الثانية (1898–1922) :
تتبعت موجة الأطباء الكوبيين الذين تخلوا عن مرضاهم. هرب الأطباء من الريف خلال حربي كوبا من أجل الاستقلال (1868-1878 و 1895-1898). وخلالها تفشت الأوبئة والمرض بالجزيرة الكوبية، ومن بين ال 200 الف جندى الذين ارسلتهم اسبانيا الى كوبا خلال حرب الاستقلال الثانية، توفي 704 جندي فى المعركة، و8164 متأثرين بجراحهم، و 53 الف جندي لقوا حتفهم من المرض. الوباء الأكثر شراسة كان الحمى الصفراءYellow fever ، التي أودت بحياة 13000 شخص. كارلوس ج. فينلي، قائد الثورة الطبية الثانية، اكتشف كيفية انتقال الحمى الصفراء بحلول عام 1881. على الرغم من اكتشافه، فقد سخر الباحثون والأطباء في كوبا واسبانيا والولايات المتحدة من أبحاثه. وفي الواقع، لم يتم تنفيذ أي من النتائج التي توصل إليها حتى عام 1900. وبعد عام واحد فقط، كانت كوبا خالية تماما من الوباء. لذلك مع اكتشاف البعوض الناقل لمرض الملاريا والحمى الصفراء، عرفت الثورة الطبية الثانية بتركيزها على علم الأحياء الدقيقة والمناعة.


تميزت الثورة الطبية الثالثة (1925-1945) بعدد أقل من الاكتشافات الطبية الجديدة، لكن ما جرى خلالها هو إنشقاق في أوساط المجتمع الطبي، إذ تجلى بوضوح وبشكل متطرد أن حل المشاكل الطبية في كوبا يتطلب التركيز على احتياجات سكان الريف والطب الوقائي مع توفير خدمات رخيصة أو مجانية، وتطبيق المعرفة الجديدة المتعلقة بطب المناطق المدارية (الاستوائية) وعلم الطفيليات [2].
وخلال هذه الثورة ظهرت أول منظمة للأطباء في عام 1925، فيما يعرف بالاتحاد الطبي الكوبي، وكان هذا العام هو نفسه الذي تأسس فيه الاتحاد الكوبي للعمال والحزب الشيوعي الكوبي (الذي استخدم اسم الحزب الاشتراكي الشعبي)[3]. وفي غضون أربع سنوات، عاصر الاتحاد تشكيل حزبين سياسين داخليين: المجددون Renovaciónالذين طالبوا بدفع أجور أعلى للأطباء وتحسين التدريب الجامعي، والاتحاديون الفيدراليون Unión Federativa (المحافظون) الذين يمثلون الأطباء في المؤسسات الطبية الخاصة والكبيرة. وفي عام 1932، انقسم المجددون إلى الإصلاحيين Reformista و الجناح الأيسر AlaIzquierda.


بحلول عام 1938، دعت منصة الاتحاد الطبي الكوبي إلى "فرض ضوابط على الصناعات الدوائية، وتعزيز الحماية من حوادث العمل، وتحديد الحد الأدنى للأجور للأطباء، وحظر الوظائف المزدوجة والمتعددة على الأطباء، وإضفاء الطابع المؤسساتي على المهنة الصحية، وتحسين المستشفيات، والصحة المدرسية، وتحديد مخصصات صحية للفقراء ...ووضع خطة تقاعد الأطباء "[4]، صحيح أن هذه النظرة تعكس آراء الجناح الأيسر في الاتحاد الطبي، إلا أن المتحكم الحقيقي فيه كان الأطباء من فئة المحافظين.
تصاعدت حدة الفصائلية في الاتحاد لاحقا، إذ تم إنشاء حزب أكثر يسارية، حزب العمل الفوري Acción Inmediata، وجناح يميني متعصب Ortodoxos (الأورثوذوكس). الأخير دعا إلى إسقاط التشديد على الوظيفة المزدوجة والمتعددة للأطباء (مما جعل عدداً من الأطباء أغنياء وكثير منهم عاطلين عن العمل)[5].
اشتد الانقسام والتنافس بين الأطباء، ففي سنة 1941 فاز حزب العمل الفوري بقيادة كلية الطب في هافانا. هذا الانتصاراليساري لم يستمر طويلا، أي عندما جاء 1000 طبيب للتصويت عام 1942 لصالح المحافظين. ولكن خلال عام 1941، فاز حزب العمل الفوري بالقيادة الوطنية في الاتحاد، وفي سنة 1943 فازوا مرة أخرى برئاسة كلية هافانا الطبية.
وقد شغل أعضاء من الحزب الاشتراكي الشعبي مناصب عالية في مجلس قيادة الاتحاد الطبي الكوبي منذ عام 1943 حتى ثورة 1959. وفي سنة 1951، كرر الأطباء دعواتهم ومطالبهم بتحسين واقع المستشفيات، وتحديد الحد الأدنى للأجور، وتنظيم التخصصات الطبية، وتطبيق المعايير الطبية الحديثة. صحيح أن المطالب كانت في جلها من أجل الحصول على ظروف عمل أفضل للأطباء، إلا أن هذه الفترة شهدت تهميشاُ للرعاية الصحية الكافية للمناطق الريفية، وهو ما كان من مآخذ الثورة الطبية الثالثة.
شهدت الثورات الطبية الثلاث نمو ما يعرف بالعلاقة التبادلية للمنفعة  Mutualism التي شكلت جزءاً رئيساً في الرعاية الصحية الكوبية. عرضت أول خطة لادخال التبادلية في الممارسة الطبية بكوبا قبل 400 سنة. ففي عام 1559، قدم طبيب من إسبانيا خطة للرعاية الطبية مقابل رسوم منتظمة. وعلى مرّ قرون نمت التبادلية إلى مجموعات فرعية متنافسة فيما بينها وأخرى متخصصة بالمهاجرين الإسبانيين، أوالجمعيات التجارية و نقابات العمال. ويصف المؤرخون الكوبيون العلاقة التبادلية بأنها "شكل من أشكال المساعدة ذاتية التمويل"، حيث يغطي المبلغ المدفوع شهريا تكاليف العلاج والاستشفاء والأدوية[6] .


في  الوقت نفسه وُجد نظام ما يعرف بالرسوم الخاصة مقابل الخدمة  Private fee-for-service. الشكوى الشائعة والناشئة حينها برزت عند قيام الأطباء في الرعاية القائمة على المنفعة التبادلية بتوصية متابعة العلاج عند أحد الأطباء العاملين في مؤسسات الرسوم الخاصة مقابل الخدمات، أي الذين لا تشمتل الخطة التبادلية على أتعاب عملهم مع المرضى. حينها يقوم الطبيبان من كلا المؤسستين بتقسيم الرسوم بينهما. اللافت للنظر أن العيادات القائمة على التبادلية شكلت موقفاً جمعياً دقيقاً للعمل الطبي بعد ثورة 1959. وإلى جانب مراكز العلاج بالمنفعة التبادلية والرسوم مقابل الخدمة، كانت الدولة تقدم خدمة طبية توفر رعاية محدودة للفقراء.
عشية الثورة، كانت هناك وفرة، وفي ذات الوقت، تداخل للخدمة الطبية في المدن مع إهمال واضح للمناطق الريفية في كوبا. ومن بين 456 مؤسسة صحية كانت تعمل خلال عام 1956، كانت نسبة 42.8 % منها خاصة أو تبادلية، يتمركز أكثر من نصفهم في مدينة هافانا وحدها.
التحول في الرعاية الطبية
بعد مرور عشر سنوات على الثورة، عكف فيدل كاسترو على دراسة واقع وضخامة مشاكل الرعاية الصحية التي واجهتها كوبا في يناير عام  1959 والتي تمثلت على النحو التالي:
* عدم وجود خطة وطنية للصحة العامة؛ وكثرة الخدمات شبه الرسمية والخاصة التي كانت أفضل بكثير من تلك التي تقدمها الحكومة؛
Individual medicine and Curative medicine* التوجه نحو الطب العلاجي والطب الفردي
*إهمال والتخلي عن المناطق الريفية وبعض المناطق الحضرية؛ حضور النزعة التجارية في الممارسة الطبية، المنافسة بين [7]الخدمات الخاصة؛ تمركز الإدارة الصحية مع عدم وعي الجمهور بالعلاجات التي يمكن أن تفيدهم.
بالإضافة إلى ملاحظات فيدل، لم تكن هناك أي بيانات موثوقة عن المؤشرات الصحية في كوبا، مع وجود عدد غير كاف من الأطباء وأطباء الأسنان الخريجين، ونقص حاد في التمويل للمعاهد والمرافق البحثية القليلة المتوفرة، وكانت الصناعات الدوائية الأجنبية تسيطر على 70٪ من الأدوية المتوفرة في السوق، مع وجود العديد من المنتجات التي تفتقر إلى القيمة العلاجية. أما بالنسبة للأطفال، فكان حوالي 10% منهم فقط مسجلين لدى الرعاية المتخصصة بطب الأطفال عدا عن عدم توفر أي برامج حكومية مدعومة للتطعيم.[8]  
استذكر الدكتور خوسيه جيلبرتو فليتس، 87 عاما، قائلا: "قبل الثورة، كانت هناك المستشفيات الكبيرة في العاصمة وحدها، في المدن الكبيرة، ولكن ليس في المناطق الريفية أو الجبال"[9].
كانت نسبة الأطباء إلى السكان 1: 248 في هافانا مقابل 1: 2608 في المقاطعات الشرقية ، والتعليم الطبي في ذاك الوقت مرنكز على الجانب النظري مقابل القليل من الإهتمام بالتدريب العملي على المرضى. ولم تكن هناك مستشفيات تعليمية كافية، وكان التعليم منصباً على جني المال. أتم الدكتور خوليو لوبيز بينيتيز تخصصه في أمراض الكلى الأطفال في عام 1960، أي بعد وقت قصير من إعادة فتح كلية الطب في هافانا بعد الثورة. يتذكر  أن "البعض كانوا يمارسون الطب كعمل تجاري، وفي مستشفى كاليكستو-غارسيا، قام 300 أساتذة في الطب بتغريم مرضاهم"[10]
كانت عملية توفير الخدمات الطبية على رأس أولويات الرعاية الصحية خلال السنوات الخمس الأولى من الثورة. ففي عام 1959، ذهبت الأولوية لبناء المستشفيات. وبحلول عام 1963 أنشأت الحكومة الثورية 122 مركزاَ صحياَ في الريف و 42 مستشفى ريفي يحوي على 1155 سريرا و 322 طبيبا و 49 طبيب أسنان.
ولتحقيق ذلك، كان من الضروري إيجاد نوع من التماسك في النظام الطبي الهش والمفكك. وفي 22 كانون الثاني 1960، أنشأ القانون 717 وزارة الصحة العامة ، ونص القانون 723 على إنشاء الخدمات الصحية الريفية [11].
ونظرا لأن وزارة الصحة العامة قامت بتوسيع خدمات الدولة ونطاقها، فقد كان لها موقف منافر تجاه المؤسسات الصحية القائمة على التبادل في المنفعة، والتي كانت تستند إلى الخدمات المملوكة للقطاع الخاص. ومع ذلك، فإن التسرع بمحاولة إلغاء هذه العيادات التبادلية خلال الاضطرابات التي أعقبت الثورة لم يكن من الحكمة بمكان.
في الحقيقة، فإن الخدمات التبادلية الواسعة الإنتشار وفرت وسادة لتخفيف من وطأة هروب وتخلي الأطباء عن الممارسة الطبية الخاصة عندما وقعت الثورة. وقد قلل ذلك من الضغط على الخدمات العامة أثناء توسيعها وإعادة تنظيمها. ومع مرور الوقت، تكثفت التناقضات في إطار المؤسسات التبادلية حيث أدرك أعضاؤها أن خدماتهم غير متسقة بل ويمكن الحصول على الرعاية الصحية المجانية من قبل عيادات الدولة. لذا بدلاً من مهاجمة الوضع القائم، وضعت وزارة الصحة العامة تقريراُ عام 1963 يصف كيفية توطيد وترشيد الخدمات التبادلية.
لا يمكن أن تحدث التغييرات الثورية لمجرد أن القوانين تشرع بذلك، إذ أنها بحاجة لنوع من حملات التعبئة التي اجتاحت كوبا آنذاك، وكانت حملة محو الأمية هي أفضل الجهود المعروفة وأبرزها. ففي عام 1953، كان 23.6 % من الشعب الكوبي يعاني من الأميّة (41.7 % في المناطق الريفية). وخلال سنة واحدة، تم تعليم 707،712 شخص القراءة والكتابة. وفي غضون بضع سنوات، انخفضت نسبة الأمية إلى الصفر. وقعت هذه الحملات المبكرة عندما كان مؤيدو باتيستا (المعارضون للثورة) يجوبون الريف. ويذكر الدكتور خوسيه فليتس أن "آلاف الطلاب ذهبوا إلى الريف لتعليم الناس كيفية القراءة والكتابة. كانت حملة رائعة، لكنها جاءت بثمن باهظ، فقد إغتال المعارضون بعض هؤلاء الطلاب المثاليين". وهكذا، كانت الحملات الطبية مكوناً أساسياً من عناصر التحول الاجتماعي الأوسع نطاقاً في كوبا. وبحلول عام 1960، طالب القانون 723 الخريجين من الأطباء بقضاء سنة كاملة في الخدمة الريفية، وبقدوم عام 1963 قام 1500 طبيب و 50 طبيب أسنان بتنفيذ ذاك المطلب.
وفي شباط لسنة 1960، ذهبت المجموعة الأولى المكونة من 357 طبيباً إلى المناطق الريفية حيث لم يكن هناك أطباء في السابق، وكان العديد منهم يعيش أو يقيم في منازل الفلاحين. وجد هؤلاء الأطباء أن الناس بحاجة ماسة إلى الطب العلاجي في البداية وليس الوقائي. لكن الطب الوقائي في تقديرهم هو الذي ينبغي له أن يسود. ومع نهاية عام 1960، أعطي الأطباء ضعف عدد اللقاحات الخاصة بالدفتيريا والسعال الديكي والكزاز مقارنة مع التي قدمت سابقاً ما بين عام 1954حتى 1959.
بدأت حملة مكافحة الملاريا في عام 1961. وشهد العام التالي أول حملة وطنية للتطعيم ضد مرض شلل الأطفال، وحملة المياه النظيفة، ومكافحة انتشار التهاب المعدة والأمعاء الدقيقة وبرنامج آخر رئيسي لتطوير تدريب العاملين في قطاع الصحة، .Rabiesحتى أن هنالك حملة خاصة بكلاب الشوارع ضد داء الكلب
أطباء جدد، تعليم طبي جديد
كان لموجة الحماس الثوري التي اجتاحت الجزيرة الكوبية تأثير خاص على كليات الطب. فقد قام مؤيدو الباتيستا بإغلاق جامعة هافانا (بما في ذلك كلية الطب) ردا على الإحتجاجات الثورية في الفترة 1957-1958. وعندما أعيد فتحها في عام 1959، كان هناك نهج جديد للتعليم الطبي. كان الدكتور إزنو ديناس غوميز، أخصائي حديثي الولادة الأطفال، في الدفعة الأولى للتخرج بعد الثورة. وعندما كان يبلغ من العمر 84 عاما، قال لي: "ثقافة التدريس تغيرت. ففي التعليم الطبي الكلاسيكي قبل عام 1959، كان بإمكان الطلاب الذهاب إلى المحاضرة إذا أرادوا ذلك ولم يتلقوا سوى القليل من الخبرة العملية. هذا هو السبب الذي ساهم بجعلهم يتخطون المحاضرات. بعد الثورة، توجب على الطلاب حضور المحاضرة للتدريب العملي والذهاب بعدها إلى المناطق الريفية"[12].
لاحظ الدكتور فيليب كارديناس غونزاليس، الذي تخرج في عام 1962 بتخصص جراحة القلب للأطفال، أن طريقة جديدة اتبعت لعملية إلتحاق الطلاب بكلية الطب: "لقد خلقنا ثقافة جديدة للطب الثوري، أساتذة الطب خرجوا بأنفسهم بحثاً عن الطلاب الجيدين والجديرين بأن يصبحوا أطباء"[13]
وبسبب الرسوم الدراسية المجانية، كان أولئك الذين قدموا من الطبقة العاملة الأكثرُ تعداداً من بين الطلاب الجدد، وبوجودهم في كلية الطب فقد أسسوا لمجموعات ومنظمات ثورية عديدة. أُلزم الطلاب الملتحقين بالكلية بأخذ دروس ومحاضرات تهتم بالطب الريفي والاستوائي، فضلا عن العلوم قبل السريرية (الأساسية).
وللمرة الأولى قامت كليات الطب بتدريس الكيمياء الحيوية، واعتبر التدريب العملي في المستشفيات شرطا أساسيا للتخرج. قبل عام 1959، كان الطلاب في السنة الأخيرة يتعرضون للمحة قصيرة عن الطب الاجتماعي بعد أن تشكلت وجهة نظرهم حول الممارسة الطبية. لكن بعد عام 1959، أدرج الطب الاجتماعي في المنهج المقرر لكل سنة دراسية.
أصبح واضحاً جداً أن مشاركة الطلاب والحكومة بإصلاح الأنظمة القديمة في التدريس قد حرر عملية التعليم الطبي من تحكم أعضاء هيئة الكلية فيها. ففي 29 تموز 1960 حدث انقسام بين أعضاء هيئة التدريس عندما عقد اجتماع لمناقشة قرار مجلس الإدارة العليا المقترح للجامعة. وبعد شهر واحد، لم يتبق سوى 19 أستاذ في كلية الطب بهافانا - وهي كلية الطب الوحيدة في كوبا حينها- لكن هؤلاء المدرسين شكلوا نواة من الأطباء ذوي الكفاءة الذين تولوا مسؤوليات ضخمة للحفاظ على مستوى التعليم الطبي في الكلية.
لضمان استيعاب عدد أكبر من الطلاب، ارتفع عدد المستشفيات التعليمية من 4 إلى 7 وافتتحت مدارس طبية جديدة في لاس فيلاس وسانتياغو دي كوبا. الطلاب والأطباء استطاعوا التكيف مع المطالب الشاقة التي لاحقت الثورة. يضيف الدكتور فيليبي كارديناس: "لم يأخد أحد منا قسطاً من الراحة خلال تلك السنوات، لقد عملنا بجد كلما دعت الحاجة إلى ذلك. كنت أقوم بأعمال الحراسة لمدة 24 ساعة ثم ممارسة الجراحة أو الدراسة وكتابة أعمال لمتابعة الطلاب الجدد".
تعاقدت وزارة الصحة العامة مع أساتذة  في الطب من 26 دولة: 120 مدرب وأستاذ وصلوا في 1964 و92 في عام 1965. حضر معظمهم من الأرجنتين والمكسيك والإكوادور فيما قدم آخرون من بلغاريا والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا والمجر.
وخلال الفترة الواقعة ما بين 1959-1962، خرّجت كوبا 1497 طبيب، ومن عام 1963 إلى 1969، بلغ متوسط عدد الخريجين الأطباء 498 خريج سنويا. وهذا يعني أنه في نهاية عام 1963، أي بعد مرور خمس سنوات على الثورة، كانت البلاد بحاجة الى ما يقرب على 1000 طبيب للوصول إلى العدد الذي كانت علية من الأطباء قبل عام 1959  (6000 طبيب). وعلى الرغم من أن السنوات الخمس الأولى من الثورة قد حولت ثقافة الطب بشكل جذري وقدمت الرعاية لأولئك الذين لم يتلقوها من قبل، إلا أن نسبة الأطباء للمرضى لم تكن جيدة بعد.
تلقت الحكومة الجديدة، ولا سيما فيدل، ردوداً واستجابات هائلة للدعوات التي أطلقتها من أجل تحقيق التزامات الثورة. يذكر الدكتور خوسيه  فليتس أن حماسته للثورة نشأت من عدم إعجابه بنظام الباتيستا قائلا:" تعاطفت مع الثوار، لكني عشت خارج تلك الأحداث. كان عالمي منصباً على مرضاي ورعاية عائلتي. المرة الوحيدة التي اجتمعت فيها ظروف الثورة وغرفة العمليات معا بالنسبة لي هي عندما خبأتُ شاباً - وهو مقاتل ثوري جريح هرب من شرطة الباتيستا. ووصل إلى غرفة الطوارئ بينما كنت تحت التدريب في مستشفى كاليكستو غارسيا، خبأته هناك من الشرطة التي كانت ستتعرض له باللتعذيب أو القتل، ولكنني أقول لكم إن انتصار الثورة شكل لحظة عظيمة بالنسبة لنا جميعا"[14].
وحتى قبل أن تطالب الحكومة بتوفير الخدمات الطبية الريفية، أبدى تجمع من طلاب الطب فى 29 نوفمبر عام 1959 استعدادهم للذهاب الى أقاليم كوبا. روى الدكتور خوليو لوبيز بعد تخرجه من كلية الطب بفترة قصيرة : "سألني صديق لماذا يتم إرسال الأطباء إلى سانتياغو بينما لم يكن هناك ما يكفي منهم في هافانا؟ وقلت له أن هناك أطباء أقل في سانتياغو ونحن جميعاً كوبيون في نهاية الأمر".
وأثناء عملية استقطاب المجتمع الكوبي بين مؤيد ومعارض للثورة، التحق الطلاب بكلية الطب حاملين في أذهانهم توقعات عالية بحصولهم على تدريب طبي يمكنهم من تحقيق احتياجات المجتمع وليس الغايات أو المكاسب الشخصية، فكان الرد الشائع بين الطلاب على الدعوة للممارسة الطبية الخاصة هو: "سأذهب أينما تحتاجني الثورة".
كما اشتعلت روح الحماس للخدمة في الريف والمقاطعات الكوبية بين الأطباء الممارسين للمهنة أيضاً. حيث تأثر الدكتور خوسيه فليتس بشكل كبير بعد حديثه مع وزير الصحة الجديد قائلاً: "كان الوزير يعرفني على نحو شخصي وحثني على الإلتحاق معهم. كانوا بحاجة إلى العديد من الأطباء للذهاب إلى أماكن مختلفة في سييرا مايسترا (منطقة جبال) لتوفير الرعاية للفلاحين. وقلت بنفسي: نعم، سأذهب!"
لاحظ الدكتور لوبيز أن لفيديل تأثيراً كبيراً بعد حملة محو الأمية. إذ طلب من الناس دراسة الطب والعديد من الذين لبوا النداء كانوا من المراهقين". وكان أحد هؤلاء المراهقين الدكتور أوسكار مينا هيكتور، الذي تحدث معي عندما كان في سن الثانية والستين. سمع دعوة فيديل عندما كان في المدرسة المتوسطة، فأجرى امتحانات القبول في كلية الطب عندما كان في الرابعة عشرة من عمره. لم ينجح في ذلك الحين. لكنه فعلها في عام 1970 وأصبح طبيبا في عام 1976 [15].
وقد أثرت الحملات الطبية في المناطق الريفية في كوبا تأثيراً عميقاً على المشاركين فيها. عبر الدكتور فليتس عنها:"... سوف أتذكر دائما حالة معينة لصبي صغير عانى من الجفاف. قدمنا له السوائل في الوريد لأنه أصيب بالإسهال. أذكر ذاك الصبي جيداَ لأنه كان من المحتمل أن يموت بالجفاف لو لم نكن هناك"
حالة من العلاقات الدولية الطبية
تفاعل النظام الصحي في كوبا مع بلدان أخرى بطرق عديدة. ففي وقت مبكر من نيسان 1961، وقعت كوبا اتفاق تعاون مع تشيكوسلوفاكيا. وفي العام اللاحق أرسلت بعثة إلى بلغاريا لدراسة الطب الوقائي. وقد أبرمت ألمانيا الشرقية مع كوبا في عام 1964 اتفاقاً لإرسال إمدادات خاصة بطب وجراحة العظام، كما أرسلت كوبا أطباء في الخارج. ففي شهر آذارعام 1960، أي بعد 15 شهرا فقط من الثورة، ضرب زلزال تشيلي فأرسلت كوبا عددا قليلا من الأطباء هناك لفترة وجيزة. وفي العام التالي أرسلت كوبا قارباً محملاً بأسلحة للجزائريين المقاتلين من أجل الاستقلال عن فرنسا،  وعاد القارب مع 76 جريحاً جزائرياً ينتظرون العلاج في كوبا و 20 طفل من اللاجئين.
كانت البعثة الطبية الكوبية عام 1963 إلى الجزائر مكونة من 55 شخص،  بينهم 29 طبيب، وضمت 43 رجلاً و 12 امرأة. تفاصيل هذه المهمة لم تكن معروفة على نطاق واسع حتى قيام هيدلبرتو لوبيز بلانش بنشر" قصص سرية للأطباء الكوبيين" وهي مجموعة من قصص تتضمن التاريخ الشفوي للكوبيين العاملين في المجال الصحي في أفريقيا أثناء ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
كان أحد الأطباء الذين ذهبوا إلى الجزائر سارة بيريلو. بيريلو التي بلغت من العمر 84 عاما عندما قابلها ناشر القصص لوبيز. بعد أن تخرجت سارة من تخصص طب الأطفال، سمعت والدتها أن فيدل يقول أن رحيل الأطباء إلى فرنسا تركت الجزائريين في حال أسوأ من الكوبيين، فهناك "زيادة قدرها 4 ملايين شخص  في الجزائر مقارنة بكوبا لكنهم لا يملكون سوى ثلث عدد الأطباء الذين نمتلكهم"[17].
بعد أن وصلت والدتها إلى منزل سارة، أخبرتها بأن الجزائريين بحاجة لمساعدتها، فذهبت الدكتور بيريلو إلى وزارة الصحة العامة للتطوع في البعثة لكنها كانت قلقة بشأن والدتها الطاعنة في السن والمصابة بمرض الرعاش (باركنسون). ردت عليها والدتها بأن شقيقة سارة وزوجها سيساعدانها كما ستتكفل بذلك الحكومة قائلة: "الآن المهمة التي يجب عليك القيام بها هي المضي قدماً وألا تقلقي بشأن أمك التي ستتلقى العناية هنا بشكل جيد"[18].
كان الدكتور بابلو رزق حبيب يبلغ من العمر 76 عاما عندما أُبلغ عن اختياره رئيساً للبعثة الطبية الجزائرية بسبب أصوله العربية. كان يعمل طبيب التخدير، بداية في مستشفى ثم في عيادة تبادلية. لقد ترك ابنته البالغة من العمر ثلاثة أشهر في رعاية زوجته، التي دعمت تلك الجهود الدولية.
وُعد أعضاء البعثة الطبية بمبالغ مالية صغيرة تصرف إلى أسرهم، إضافة إلى رواتبهم. ووصف د. رزق المهمة المحفوفة بالمخاطر في البعثة الدولية الأولى لكوبا: "لقد وجدنا أنفسنا في بلد عربي، مسلم، ذي عادات وثقافات مختلفة جدا عن بلدنا"[19].
الدكتورة زويلا إيتاليا سواريز،  أتمت تخصصها  في طب الأطفال لكن بسبب إغلاق نظام باتيستا للجامعة، تأخر تخرجها حتى عام 1960. قدمت الطبيبة فورا إلى مقاطعة غرانما لتقديم الخدمة للريف. اعتبرت الدكتورة زويلا أن تجنيدها في البعثة الجزائرية مثّل عملية الانتقال النوعي من حملات إنهاء التفاوت الريفي- الحضري داخل كوبا إلى مرحلة العلاقات الدولية الطبية. إن الرغبة في مغادرة هافانا إلى المناطق الريفية من كوبا سهلت نقل الإستعداد والجاهزية  لمغادرة كوبا من أجل المساعدة في تلبية الاحتياجات الطبية في أفريقيا.
أكدت د. إيتاليا أن اللغة كانت مشكلتها الرئيسية، فخلال عملها في علاج المرضى، ينبغي أن يصاحبها مترجم اللغة العربية إلى الفرنسية وآخر لترجمة اللغة الفرنسية إلى الإسبانية. ذات مرة قدمت امرأة مع طفلها الى عيادتها ولكنها كانت تتحدث بلهجة عربية لم يفهمها المترجم، أخذت الأم يدها ووضعتها على بطن ابنها، عندها أحستت الطبيبة بالورم، وأرسلت الطفل إلى المستشفى على الفور. لكنها تعلمت أن تشخص المرض بناء على لمس الأم لطفلها أو إذا قامت بتمثيل العطاس أو السعال.
البعثة علمت الأطباء دروساً قيمة في الطب، إذ شهدت الدكتور إيتاليا "العديد من الأمراض التي كانت نادرة أو غير موجودة في كوبا. رأيت الكثير من حالات السل وسوء التغذية والملاريا والأمراض الطفيلية والالتهابات البكتيرية ... وفي مدينة كونستانتينا، كان المستشفى العسكري فارغاً تماما لأن الأطباء الفرنسيين قد رحلوا عنه"[20].
إرنستو "تشي" جيفارا ترك أثراً عميقاً على هذه المهمة، إذ أشارت الدكتورة إيتاليا إلى أن "تشي زارنا عندما مضى على قدومنا للجزائر شهر واحد فقط، وسأل عما إذا كنا نواجه أي صعوبات وكيف تمكنا من التفاعل مع المرضى دون معرفة لغتهم. تشي قضى فقط بضع ساعات معنا. إذ أننا منتشرون في مختلف المحافظات الجزائرية لكنه ذهب لزيارتنا في جميع أنحاء البلاد"[21].
أضافت الدكتور بيريلو قائلة: "بعد ظهيرة أحد الأيام قيل لنا أن تشي سوف يلتقي بنا في صباح اليوم التالي في الساعة 7 ، لم نكن نعتقد أن ذلك سيحدث لأن لا أحد يسافر ليلاً في الجزائر. ولكن عندما وصلنا إلى منزل الحكومة في 13 نيسان 1963 كان تشي ينتظرنا عند الباب ". قال تشي لنا "أن ننسى الخضرة وأشجار النخيل في كوبا، وأن نكرس أنفسنا لعملنا في الجزائر"[22].
تركت البعثة والتجارب الجزائرية للكوبيين قصصاً من شأنها أن تلهم طلاب الطب لعقود. وأكد الدكتور رزق على ذلك بقوله "لقد تلقيت من تلك المهمة ما هو أعظم بكثير مما أعطيته لها ... وأنا فخور بأنني كنت أحد رواد هذا المثل العظيم الذي ضربته جزيرة صغيرة في الكاريبي للعالم"[23].
عن ال3000 الذين رحلوا
العديد من الأطباء الكوبيين لم يكن لديهم الرغبة في الذهاب إلى المحافظات أو الريف، وعدد أقل منهم بكثير أبدى رغبته بالذهاب إلى الصحراء الجزائرية. شهدت كوبا موجتين كبيرتين من هجرة الأطباء. فالهجرة الأولى رافقت التغييرات الهائلة في تقديم الرعاية الصحية خلال الأعوام القليلة الماضية، شملت العديد من أصحاب العيادات الخاصة، ومديري المراكز التبادلية، وأولئك الذين لديهم ممارسة طبية خاصة عالية الدخل. أما الموجة الثانية فحدثت بسبب غزو خليج الخنازير (عملية الإنقاب الفاشلة التي قام بها معارضو الثورة بتدبير من وكالة الإستخبارات الأمريكية) في نيسان 1961 وأزمة الصواريخ في تشرين الأول 1962. وأشار الدكتور لوبيز " كان هناك 59 طبيبا يعملون في مستشفى وليام سولير. وفي يوم واحد في شباط 1961، غادر 26 طبيب فجأة وكان ذلك قبل شهر أو نحو ذلك من غزو خليج الخنازير. لقد كانوا على علم بما سيحصل ولذلك غادروا".
رحل كثيرون مع ظهور الخدمة الريفية الإلزامية التي من شأنها أن تأخذهم إلى أماكن تفتقر إلى وسائل الراحة الموجودة في هافانا. ويعتقد الدكتور كارديناس أنه "الوضع كان مشابها للبرازيل حيث لم يرغب العديد من الأطباء بالذهاب إلى المناطق التي تحتاجهم أمس الحاجة". وأضاف: "معظم الأطباء الذين رحلوا لم يكونوا من فئة أغنياء ولكن عرفوا بصلاتهم معهم عبر ذلك".
كانت عملية محو الأمية والحملات الطبية وغيرها من الحملات التي اجتاحت فقراء كوبا والطبقة الكادحة والمزارعين إهانة لمستوى الحياة الذي عاشه أفراد في الطبقة الوسطى. أما مرحلة الإختلال التي ألمت بكلية الطب - عندما أغلق باتيستا الجامعة خلال الفترة 1957حتى 1958- فلم يكن هناك نزوح كبير آنذاك من قبل أعضاء هيئة التدريس في الكلية. اقترح دويناس قائلا: "كانوا يعرفون أن الأبواب مفتوحة لهم في الولايات المتحدة في أي وقت. ذهب العديد من الأطباء إلى ميامي ليس لأنهم كانوا معاديين للثورة ولكن لأنهم كانوا يمتلكون امتيازات كثيرة في الولايات المتحدة".
سألت أربعة أطباء (لوبيز، كارديناس، دويناس و مينا) عن ما إذا كان الفرق بين أولئك الذين هاجروا والآخرين الذين آثروا البقاء هو التقدم في العمر فأجاب جميعهم "لا - العمر ليس له علاقة بالهجرة، واتفقوا أيضاً على أنه لم يكن من الممكن تحديد كيفية تفاعل تروة الطبيب مع الثورة ".
أضاف الدكتور دويناس: " كان روبرتو غويرا جراحا غنيا مشهورا ويمتلك كاريزما عالية جدا، لم يكن لديه أطفال لكنه عاشق لنجمة سينمائية. كان أول من تخلى عن ممارسته الطبية الخاصة، وتبرع بعيادته للثورة حتى يتمكن من استخدامها للتدريس". وأكمل حديثه بقوله: "تبرع الدكتور خوسيه ريسنو ألبارا بملايين الدولارات وساهم في إيجاد الطب الثوري الجديد، بعض الأطباء دعموا الثورة بعد وقوعها، ولكن بعضهم كان منذ الأصل ثورياً".
سيكون من المبالغة إدعاء عدم وجود أي رابط في مواقف الأطباء قبل وما بعد الثورة، والأمر سيان عند افتراض أن طبيعة الأعمال قبل عام 1959 قادرة على التنبؤ دائما بتصرفات الطبيب بعد التخلص من نظام الباتيستا. كان هناك بالتأكيد بعض الذين أعاروا الإهتمام بحركة 26 تموز (بقيادة كاسترو) لكنهم سرعان ما امتعضوا منها حين تيقنوا أنها تطبق مبادئها على أرض الواقع، على عكس العديد من الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية، والتي انتهى بها المطاف بالسيطرة على السلطة. وعلى العكس، بقي العديد من الأطباء بمعزل عن الصراع القائم، ربما كانوا يعتقدون أن كوبا لا يمكن أن يكون لها أي تحول حقيقي أبداً، لكنهم ألقوا بأنفسهم في خضم التغيير الذي تجلى ملياً أمام أعينهم. الخلاصة هي أن التباين بين الأطباء الذين استمروا بتقديم الممارسة الطبية في وطنهم وأولئك الذين غادروا تمحور حول الكيفية التي تم من خلالها إندماجهم أو نفورهم من التغييرات البارزة في مجتمعهم.
سباق في زمن الثورة الطبية
يشكل الكوبيون من أصول أفريقية أعلى نسبة بين أولئك الذين يسكنون في الريف وأولئك الذين يعيشون في الجزء الشرقي من الجزيرة، التي هي أقرب إلى هايتي، حيث توجد أكبر مدينة في تلك المنطقة تدعى سانتياغو دي كوبا. ثورة 1959 أدت إلى التغيرات الأكثر أهمية في حياة الكوبيين السود منذ إلغاء إسترقاق العبيد. وكانت الدعوة إلى العمل في المناطق الريفية والمحافظات الشرقية مرادفة للنداءات الرامية إلى مكافحة العنصرية الهيكلية. هذا السبب  الذي دفع الدكتور لوبيز للتطوع بالخدمة هناك: "كنت أقوم بالبحوث الوراثية كطبيب أطفال عندما قالوا لي أن الأطفال يموتون في سانتياغو وأنهم بحاجة إليّ لذلك غادرت إليها في بداية الستينيات للعمل بدوامي لمدة ثلاثة أشهر".
العنصرية ما قبل الثورة لم تقتصر على التمييز غير الواضح بل كثيراً ما كانت صارخة ولا هوادة فيها. فحسب ما وصف الدكتور لوبيز: "مستشفى واحد ادعى أنه مكرس للغايات الدينية؛ لكنه لم يقبل سوى مرضى البيض ولم يقبل المرضى السود".
عرفت عائلة د. مينا معنى العنصرية جيداً، فابن عمه، خوسيه فيلينا، درس الطب ولكنه كان فقيرا جدا وكان عليه بيع الطماطم لشراء الكتب." لقد اجتاز جميع مساقاته، ولكن بعد امتحانه الأخير، علمت أنه لن يصبح طبيبا لأنه أسود ". في نهاية جميع المساقات كان هناك امتحان محكم وطبيب ممتحن واحد لا يقبل بنجاح الطلاب السود في إمتحاناته. "بعد عامين، أي في عام 1959، اجتاز ابن عمي امتحاناته وأصبح طبيبا ومارس الطب الباطني في كاماجوي حتى وفاته".
لم تكن فترة ما قبل الثورة بدون جهود مناهضة للعنصرية في مجال الرعاية الصحية. ففي عام 1938، بدأ اتحاد عمال النقل الذي يقوده الشيوعيون خطة صحية قائمة على انشاء عيادة تبادلية لعماله، يدعى سينترو بينيفيكو. وبعد خمس سنوات عرضت الخطة على العمال الآخرين واستقطبت 25 ألفا بحلول عام 1959. "كان سينترو بينيفيكو هو العيادة التبادلية الوحيدة التي خدمت عددا كبيرا من الكوبيين غير البيض دون تمييز أو تفرقة عنصرية"[24].
تدفق الفرق الطبية إلى المجتمعات الحضرية الفقيرة والمناطق الريفية والجزء الشرقي من الجزيرة بالتنسيق من الحكومة الثورية حدث بالتزامن مع الحقبة التي ناضل فيها المتظاهرون من أجل نيل الحقوق المدنية الأمريكية ، فكانوا يتعرضون للضرب من قبل الشرطة ومهاجمهم من الكلاب لمجرد مطالبتهم فقط بحقهم في الجلوس في أماكن "البيض فقط". هذا الفرق الشاسع لم يُنسى يوماً للكوبيين والكثيرين في الولايات المتحدة
.
وعي
التناقض المركزي الذي واجهه الطب الثوري هو كيفية القيام بالعديد من المهام مع وجود القليل من الموارد في تصور أعمق بكثير. السيد روبيرتو كابوت مير كتب بعد 20 عاما من الثورة عن إنجازاته المبكرة كإنشاء نظام صحي موحد؛ وزيادة عدد الأسرة في المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية، ولا سيما في المناطق الريفية والشرقية من كوبا؛ وزيادة العاملين في كل مهنة في مجال الرعاية الصحية. وتحقيق "المشاركة النشطة والفاعلة من قبل الجماهير في إيجاد وتطبيق حلول لمشاكل الرعاية الصحية"[25].
ومن بين المنظمات العديدة التي أنشأت في ذلك الوقت، كانت لجان الدفاع عن الثورة الأهم للطب في كوبا، التي نٌظّمت في عام 1960 للحيلولة دون وقوع تدخل من الثورة المضادة. وشاركت لجان التنمية المجتمعية في حملات صحية متعددة، وبعد عام 1962، كانت هي مسؤولة عن توفير التطعيم ضد مرض شلل الأطفال.
وفي مناخ سياسي مختلف، أصبح الأطباء أشخاصا مختلفين. قال الدكتور لوبيز: "عندما بدأت حياتي الطبية، اعتقدت أنه إذا مات طفل من الجوع لم يكن مشكلتي كطبيب. ولكن الآن أفهم تماماً أن هذه هي مشكلتي".
لم يكن الدكتور كارديناس أقل تأثراً منه: "في البداية كان الناس مع الثورة أو ضدها بطريقة نظرية جدا، لكني تزوجت الثورة. كانت هناك حملة تطعيم في ريلينغو 18 (في غوانتانامو). وكان على المرضى أن يحضروا سيراً على الأقدام، جلبت امرأة طفلها المصاب بالتهاب المعدة والأمعاء الدقيقة. كان على والده أن يمشي لمدة ثلاث ساعات كل يوم لرؤيته وقلت له أنه بإمكانه البقاء في المنزل لأن ابنه من المحتمل أن يفارق الحياة في غضون يومين. لم يغادر الأب وأخبرني أن له أربعة أبناء آخرين قبله لقوا مصرعهم. هذا الموقف غير حياتي إلى الأبد"
عندما بدأ الأطباء العمل ككادر طبي، اعتبروا أنفسهم جزءا لا يتجزأ من أجندة سياسية أوسع. تحدث خريج كلية الطب أنه "لا يمكن أن يفشل في رؤية جهوده الخاصة كجزء واحد فقط من مجموعة من التدابير ذات الصلة بالصحة: ​​إصلاح الأراضي، والطرق الجديدة، وتحسين الطرق الزراعية وبناء المدارس وبرامج محو الأمية، وتحسين النظام الغذائي، ووضع حد للبطالة الموسمية..." [26].
إن فهم الحاجة إلى خدمة المحرومين من الخدمات شكل الأساس للنظرية التي توجه الطب في كوبا. وكما أدرك كارل ماركس" "تصبح النظرية قوة مادية عندما تفلح في السيطرة على الجماهير" [27] فإن رغبة الأطباء المعزولين في توفير الرعاية المجانية لكثير من الكوبيين الفقراء لا يمكنها وحدها أن تغير الطب ككيان مثلما أنّ لا جدوى ترجى من محاولة الحكومة إنشاء نظام طبي جديد بموجب المراسيم والقوانين بمعزل عن أوضاع البلاد. ولكن في وطن فيه آلاف الأطباء الذين كافحوا لعقود من أجل خلق رعاية صحية منصفة، فإن الحكومة الثورية عكست ذلك الوعي الذي مكنها من توحيد هذه الصراعات وإعادة تشكيل صورة الطب.
الوعي عند ال 3000 الذين اختاروا البقاء أضحى قوة مادية في عملية إنتاج الرعاية الصحية الكوبية مثله مثل قوة تصنيع المستحضرات الصيدلانية أو بناء المستشفيات. وقد تأثر الطب بهذا الوعي كما تأثر طب الأسنان الكوبي بجلب معدات عالية الكفاءة مطورة حديثا والتي كان فيدل يطالبها كفدية من الولايات المتحدة مقابل عودة المرتزقة الذين تم أسرهم بعد غزو خليج الخنازير.
لم تتم الإجابة على السؤال ما إذا كان هذا الوعي الطبي الجديد سيكون قويا بما فيه الكفاية للتغلب على التحديات الجديدة. فتلبية الحاجة الشديدة إلى الخدمات الأساسية يعني بناء المرافق المادية والتركيز على أمراض معينة ومشاكل صحية. ولحقبة طويلة ظلت علاقة مؤسسات الرعاية الصحية بالمجتمعات المحلية التي تخدمها كما هي. ومع أن إنشاء المستوصفات البلدية التي بدأت في عام 1962 أظهرت توجها جديدا، فإن جو الأزمة تداخل مع توسيع هذا التحول النموذجي. [28] ولا يزال السؤال هنا قائماً: ما أن تتحسن الخدمات المقدمة، هل يمكن للمجال الطبي أن يضع تصوراً آخر للتغييرات الأساسية في طريقة تقديم الرعاية الصحية؟
كانت الأخبار القاتمة تطرق بشدة على أبواب الطب في كوبا إذ زادت وفيات الرضع خلال السنوات القليلة الأولى من الثورة [29]، فمن المرجح أن يكون السبب في تلك الزيادة إلى وجود إحصاءات حيوية أفضل. بعض وفيات الرضع التي لم تسجل قبل عام 1959 تم تسجيلها بعد الثورة. كانت الثورة تبذل كل ما في وسعها من أجل توفير اللقاحات وغيرها من خدمات طب الأطفال، ولكن هجرة الأطباء تكبدتها أيضاً خسائر إضافية. كانت الكليات الطبية الموزعة بشكل أفضل في جميع أنحاء الجزيرة تسعى بلا كلل لزيادة كل نوع من أنواع التدريب الطبي. ومع ذلك، في نهاية عام 1963 كان لا يزال هناك انخفاض نسبة الأطباء إلى عدد السكان مما كان عليه في يناير 1959. يبقى السؤال: هل سيكون الطلاب الجدد قادرين على مواصلة الوتيرة المكثفة وزيادة أعداد الأطباء خلال السنوات القادمة؟
بالرغم من الشعور بالإنجازات الطبية في جميع أنحاء الجزيرة، فإن رحلة ال 55 موظفا طبيا إلى الجزائر لم تكن معروفة بشكل جيد. وبعد خمس سنوات من الثورة، لم يكن أحد يعرف ماذا سيكون تأثيرها. وهل سينظر إليها فيما بعد على أنها مضيعة للموارد التي تمس الحاجة إليها؟ أم أنه من الممكن أن تتكامل الخبرات المكتسبة من البعثة الجزائرية مع النهج الطبية التي لا تزال في مرحلة تأسيسها داخل كوبا وأن هذا التجانس سيحول أحلام تشي إلى قوة مادية في إنتاج ممارسة طبية عالمية ثورية؟
---------------------
عن الكاتب:
دون فيتز هو محرر الفكر الاجتماعي الأخضر: مجلة التجميع والتجديد، محرر النشرة الإخبارية لحزب الخضر سانت لويس، ومنتج الوقت الأخضر بالتزامن مع KNLC-TV
Green Social Thought: A Magazine of Synthesis and Regeneration
المقال الأصلي:
http://greensocialthought.org/archive/wp-content/uploads/2015/09/gst68-34-40-Don-Fitz.pdf
المصادر:
1. Ross Danielson, Cuban medicine. (New Brunswick: Transaction Books, 1979), 22.
2. José R. Ruíz Hernández,. Cuba, Revolución Social y Salud Pública (1959–1984). (Editorial Ciencias Médicas:La Habana, Cuba, 2008) 13; Danielson, 131–133, 222–224.
3. Julia E. Sweig, Cuba: What Everyone Needs to Know (New York: Oxford University Press, 2009), 37; Danielson, 103–104.
4. Danielson, 107.
5. There does not seem to be any connection with the national political party, Ortodoxos, which attracted Fidel Castro in 1947. See Peter G. Bourne, Fidel: A Biography of Fidel Castro (New York: Dodd, Mead & Company, 1986), 39, 53.
6. Ruíz, 10.
7. Ibid, 17.
8 Ibid; Berta L. Castro Pacheco, Rosabel Cuéllar Álvarez, Longina Ibargollen Negrín, Mercedes Esquivel Lauzurique, Ma. del Carmen Machado Lubián, and Valter Martínez Corredera, Cuban Experience in Child Health Care: 1959–2006. (La Habana, Cuba: Ministry of Public Health, MINSAP, 2010), 5.
9. Candace Wolf, “The Zen of Healing: Two Surgeons Speak, Spoken Histories of Dr. José Gilberto Fleites Batista and Dr. Gilberto Fleites Gonzalez,” Havana, Cuba, January 2013. (unpublished manuscript). Dr. José Gilberto Fleites Batista was born on October 7,1925.
10. Interview with Dr. Julio López Benítez (born in 1933), Havana, Cuba, December 26, 2013.
11. Roberto E. Capote Mir, “La evolución de los servicios de salud y la estructura socioeconómica en Cuba. 2a Parte: Periódo posrevolucionario ” Instituto de Desarollo de la Salud: (La Habana, 1979), 53; Ruíz, 29.
12. Interview with Dr. Enzo Dueñas Gómez (born in 1929), Havana, Cuba, December 26, 2013.
13. Interview with Dr. Felipe Cárdenas Gonzáles (born in 1935), Havana, Cuba, December 26, 2013.
14. Wolf.
15. Interviews with Dr. Oscar Mena Hector (born January 21, 1951), December 21, 2013 and January 1, 2014.
16. Hedelberto López Blanch, Historias Secretas de Médicos Cubanos. (Centro Cultural de la Torriente Brau:La Habana, Cuba, 2005). Dr. Sara Perelló Perelló was born on April 15, 1920. Dr. Pablo Risk Habib was born on December 21, 1930. Dr. Zoila Italia Suárez was born on February 26, 1927, 9, 211.
17. Ibid, 9, 216.
18. Ibid, 223.
19. Ibid, 217–218.
20. Ibid, 235.
21. Ibid, 236.
22. Ibid, 224.
23. Ibid, 221.
24. Danielson, 120, italics in original.
25. Capote, 57.
26. Danielson, 134.
27. Karl Marx, The Critique of Hegel’s Philosophy of Right, Cited in Georg Lukáks, History and Class Consciousness: Studies in Marxist Dialectics (Cambridge MA: The MIT Press, 1968), 2.
28. Linda M. Whiteford & Lawrence G. Branch, Primary Health Care in Cuba: The Other Revolution (Lanham MD: Rowman & Littlefield Publishers, Inc., 2008), 20.

29. Whiteford, 54; Castro, 42.

تعليقات